المنطق الثأري في فكر الصحوة- قراءة نقدية لتحليلات عدنان إبراهيم

المؤلف: علي العميم08.14.2025
المنطق الثأري في فكر الصحوة- قراءة نقدية لتحليلات عدنان إبراهيم

ما المقصود بالمنطق الثأري الذي اعتبره عدنان إبراهيم من المساوئ التي علقت بالصحوة الإسلامية، والذي زعم أن أبا الحسن الندوي كان أول من أدرك وجوده لدى الإسلاميين، كما أشار في كتابه "التفسير السياسي للإسلام"؟

دعونا نستكمل التدقيق في كلامه الذي حللناه بتفصيل في مقالنا السابق، حتى يتضح لنا بالتحديد ما الذي يقصده بالمنطق الثأري الذي انتقده في الإسلاميين. يقول إبراهيم: "الندوي انتبه إلى هذه الفكرة، وأنا أسميها النزعة الثأرية في فكر الصحويين. إنهم، دون أن يعوا ذلك وبحسن نية لا ريب، يرون أن طبيعة علاقتهم بالسلطات الحاكمة هي علاقة تصادمية جوهرية. وعندما تنقضي مرحلة وتحل أخرى، تتحول هذه العلاقات إلى علاقات ثأرية، كما كانت الحال في المرحلة الناصرية على سبيل المثال. هناك أدبيات ثأرية غزيرة جداً حول تلك المرحلة. الآن، بدأوا في التراجع عن ذلك، وهذا أمر إيجابي. الثأر أيضاً من الغرب، الغرب الصليبي الذي يتم استحضار صليبيته، وتؤلف كتب تحت عنوان "الحرب الصليبية الجديدة".

قبل الخوض في تفاصيل ما يعنيه إبراهيم بهذا المصطلح، أود أن ألفت الانتباه إلى ادعاءين متتاليين ورد في كلامه. الادعاء الأول: يزعم في بداية كلامه أن أبا الحسن الندوي هو أول من اكتشف وجود "المنطق الثأري" في الكتابات الإسلامية. والادعاء الثاني: يقول في تتمة كلامه هنا: "أنا أسميها النزعة الثأرية في فكر الصحويين".

أود التأكيد مرة أخرى، فيما يتعلق بالادعاء الأول، أن كتاب الندوي يتناول موضوعاً مختلفاً تماماً عما ادعاه إبراهيم. فالندوي، مثله كمثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها من الدول العربية، تخضع رؤيته لجمال عبد الناصر والتجربة الناصرية لمنطق ثأري.

أما بخصوص ادعائه الثاني، فسأتوجه إليه بالسؤال مخاطباً إياه بالألقاب التي يظن أنه نالها، والمكانة التي يعتقد مريدوه أنه يتبوأها: يا أيها المفكر ذو التأثير العميق، والفيلسوف عظيم الشأن، والعالم الموسوعي واسع المعرفة، متى أنعم الله عليك بهذا المسمى "النزعة الثأرية" في فكر الصحويين، التي عثرت على بذرتها الأولى لدى الندوي، والتي استنبطت من خلال كلامك – وإن لم تفصح عن ذلك صراحة – أنها أتت بطريقة تراكمية كان مصدرها الأساسي هو الندوي، وأنها أشمل من مسمى "المنطق الثأري" لدى الندوي نفسه؟ وأين أطلقت هذا المسمى؟ هل أطلقته في كتاب، أم في بحث علمي، أم في مقال صحفي، أم في محاضرة عامة، أم في مداخلة في ندوة فكرية، أم في لقاء تلفزيوني أو إذاعي أو صحفي، أم في خطبة جمعة؟!

أسألك عن الزمان (متى) وعن المكان (أين)، لأن القول بأن كتابات وأقوال جماعة الإخوان المسلمين (كتب، مقالات، محاضرات، ندوات، خطب، مجلات) عن جمال عبد الناصر والناصرية، تخضع لمنطق ثأري هو قول شائع بين المثقفين منذ سبعينيات القرن الماضي. وخلال تلك الفترة، كنت لا تزال يافعاً، وفي أواخرها كنت في بداية مراهقتك تتجول في أروقة الحركة الإسلامية وبين منازلها وأحيائها.

فضلاً عن ذلك، فإن انغماس الإسلاميين في اتجاه ثأري وانتقامي من عبد الناصر ومن التجربة الناصرية، بعد وفاة الزعيم والانقلاب عليها، كان اتجاهاً واضحاً كالشمس في رابعة النهار، ولا يحتاج إلى "تنبيه" واكتشاف، ولا يستحق ادعاء شخصياً بابتكار تسمية أخرى له من قبلك. وأسألك أيضاً: ما هو الفرق الجوهري، في سياق الموضوع الذي تتحدث عنه، بين كلمة "منطق" وكلمة "نزعة" وكلمة "اتجاه"؟!

لنتأمل الآن في معنى "النزعة الثأرية" كما يراها عدنان إبراهيم، والذي يعتبر أن تسميته هذه أوسع وأشمل من معنى "المنطق الثأري" الذي نسبه زوراً إلى كتاب الندوي!

معناها عنده – بعد إعادة صياغة شرحه – أن الإسلاميين اتجهوا إلى ضرورة أن تكون علاقتهم بالسلطات القائمة محكومة بالتصادم والصدامية في جوهرها. وبالتالي، وقع الصراع بين الطرفين، وكان تصادمهم مع السلطات القائمة بحسن نية!

هذا في المرحلة الأولى. أما في المرحلة الثانية، فقد تحولت العلاقة من علاقة صراع إلى علاقة ثأر، ويقدم مثالاً على ذلك بالأدبيات التي كتبها الإخوان المسلمون عن عبد الناصر والتجربة الناصرية.

ومع توضيح شرحه وتقديمه في صياغة أخرى، إلا أنه لا يزال شرحاً مضطرباً وملتبساً وضبابياً، كما كان في صياغته الأصلية. والسبب ليس قصوراً في التعبير، بل لأنه تبنى الرواية الأخرى المخالفة لرواية الإخوان المسلمين، والتي تزعم أن الإخوان المسلمين هم من بدأوا بالصدام وليس ضباط الثورة. فدفعته عاطفته الحزبية، ومشاعر الأخوة والصداقة، ورغبته في التخفيف من ذنبه في ترك رواية الإخوان المسلمين وتلطيف حدة معصيته في تبني الرواية الأخرى، إلى تعميم ما هو خاص. فوصفه السابق – على ما فيه من عيوب – لا ينطبق إلا على جماعة الإخوان المسلمين في مصر في قصتهم المعروفة مع ضباط ثورة يوليو، ولا يمكن تعميمه على الإسلاميين في الدول العربية الأخرى. فالإسلاميون تباينت علاقاتهم بالسلطة السياسية، وتنوعت طرق تعاملهم ومواقفهم منها من بلد عربي إلى آخر، ولكل منهم قصة مختلفة. وما يجمعهم بالإخوان المسلمين المصريين في سياق حديثه، هو سيطرة عقيدة ثأرية استولت على عقولهم ووجدانهم، وتحكمت في نظرتهم وموقفهم من جمال عبد الناصر والتجربة الناصرية، وهذه العقيدة الثأرية تكاد تكون – في صلابتها ورسوخها – عقيدة دينية.

وقد دفعته عاطفته هذه، ورغبته في تخفيف ذنبه وتلطيف معصيته حين تبنى الرواية الأخرى، إلى القول بتفسير ساذج على نحو قطعي لخلق شيء من التوازن، وهو الادعاء بأن حافزهم للصدام مع السلطة كان بريئاً!

وقد فعل الشيء نفسه في بداية الحلقة حين علل منح أنور السادات جماعة الإخوان المسلمين حرية العمل، إذ قال: "ثمة أسباب لذلك معروفة ومحددة. السادات أراد أن يضعف التيار القومي الناصري، وكان لديه هدف واضح في بناء شخصية له كزعيم جديد لا يقل عن عبد الناصر، هكذا كان يحلم رحمه الله. وفي الوقت نفسه، أراد أن يحارب اليساريين والشيوعيين، فاستخدم الإسلاميين لضربهم".

وهو هنا يتبنى التفسير الشائع للسبب المحلي الذي دفع السادات إلى التحالف مع الإخوان المسلمين ودعمهم، وكذلك التيار الديني الجهادي التكفيري، ومنحهم حمايته الأمنية، واستخدامهم في ضرب التيار الناصري والتيار اليساري والشيوعي. وكما هو معلوم، فإن الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً ينكرون هذا التفسير الذي تبناه عدنان إبراهيم. ولعلمه بموقفهم من ذلك التفسير، لأنه من أبناء الحركة الإسلامية، وكان سابقاً مثلهم ينكره، أضاف سبباً ثالثاً (ما ذكره هو عبارة عن سببين، لكنه فصل بين إضعاف الناصريين وبين محاربة اليساريين والشيوعيين، مع أنه لا يمكن الفصل بين هذين الأمرين، فهما هدف أو سبب واحد) يقول به الإخوان المسلمون فقط، وهو قوله: "فضلاً عن أنه في البداية وقف جماعة من الإخوان المسلمين معه وقفة قوية وشهمة، فلم ينسها رحمه الله لهم. هذا كلام معروف". وهذا ليس سبباً، بل نتيجة لتحالفه ودعمه السياسي والأمني لهم.

فهو من خلال سياق كلامه، أراد أن يضعهم والسادات في إطار قوة سياسية متكافئة، وهذا الإطار يتضمن تفسيراً أخلاقياً. والحكاية كانت هكذا: في البداية وقفت مجموعة منهم في مجلس الشعب مع السادات وقفة قوية شهمة، والسادات، لأنه لم ينس وقفتهم القوية الشهمة هذه، أتاح لهم متنفساً كبيراً. فكما هم مدينون له، هو أيضاً مدين لهم.

أي أن التحالف بين السادات والإخوان المسلمين قام لسبب سياسي وأيديولوجي، وقام أيضاً لسبب أخلاقي، وكان الإخوان المسلمون هم أصحاب المبادرة الأولى فيه.

يرى عدنان إبراهيم أن التسمية التي اختارها هي أشمل من التسمية التي زعم أن الندوي قد قال بها في كتابه المذكور، وذلك لأنه اعتبر كتابات الإسلاميين عن المرحلة الناصرية مجرد مثال من بين أمثلة أخرى للمنطق الثأري في فكر الصحوة، ولأنه أدخل كتابات الإسلاميين المشحونة بالتعصب الديني ضمن المنطق أو النزعة أو الاتجاه الثأري لديهم.

في الأمر الأول، نحن لا نعرف سوى المثال الذي ذكره، فهو المثال الواضح والوحيد. فالكتابة المحكومة بالمنطق والعقلية الثأرية لا تقال إلا عن كتاباتهم عن عبد الناصر وعن التجربة الناصرية. فعلى سبيل المثال، فإن كتابات الإسلاميين السوريين عن حكومة البعث وعن حافظ الأسد وعن أركان حكمه لا تدرج ضمن ذلك التصنيف، على الرغم من أن أصحابها إخوان مسلمون، وعلى الرغم من أن كتاباتهم محكومة بذلك المنطق وتلك العقلية.

إن قصر تلك التسمية على كتابات الإخوان المسلمين المصريين والإسلاميين عموماً عن جمال عبد الناصر وعن التجربة الناصرية له أسباب ليس هنا مجال الحديث فيها.

وفي الأمر الثاني، فإن المثال الذي ذكره هو سياق وموضوع وقضية أخرى مختلفة جداً عما يتحدث عنه.

في ختام حديثه الملفق عن تنبه أبي الحسن الندوي للمنطق الثأري عند الإسلاميين، قال للزميل أحمد العرفج: "نحن في نهاية المطاف – انتبه هنا مسألة عميقة جداً – أبناء دين. وهذا الدين ليس لنا كمصريين، وليس لنا كسعوديين، بل هو للعالمين. لا يمكن أن نأتي إلى دين – المفروض فيه أن يكون نعمة يُتنعم ويُحظى ويُحتظى بها – فنحوله إلى منطق صدامي وثأري وتصفية حسابات، بمعنى أو بآخر- تخيل – في أوضاع ضيقة ونطاق أضيق. الندوي تنبه إلى هذا وشعر بأنه خطير جداً، ورأى أنه يؤثر – هكذا بتعبيره – ويجعل المشروع الإسلامي فاشلاً وغير مقبول بعد ذلك عند أبناء الأمة الإسلامية تخيل لاحظ هذه الملاحظة من قديم".

ها هو يكذب مرة أخرى على الندوي. فكل ما نسبه إليه في الكلام أعلاه لم يقله الندوي، ولم يقل بما يدنو منه ولو من بعيد في كتابه المذكور. وكذبته هذه المرة كذبة وقحة وصفيقة، إذ ادعى في ختام الكلام أنه ينقل عنه حرفياً!!!

إننا أمام فضيحة ارتكبها هذا المتعالم المنتفخ، يستحيل عليه وعلى المعجبين به تغطيتها وسترها أو تسويغها أو تبريرها. فهو ينسب لكتاب موضوعاً لا يوجد فيه أي شيء منه. وهذا الكتاب الذي يشيد به موضوعه نقد واضح وتخطئة صريحة للطريق الذي سلكه في حديثه عن التاريخ الإسلامي. وهذا الحديث كان سبباً رئيساً في شهرته، وصنع له جمهوراً عريضاً متفاوتاً في علمه الديني وفي ثقافته العامة وفي أطوار سنه وفي اتجاهاته وفي ميوله وفي مشاربه.

حقاً، إننا أمام فضيحة مزدوجة.

قد تلحظون من خلال تلمسنا لما هو معنى المنطق الثأري الذي تحدث عنه وعده من سلبيات فكر الصحوة أنه لم يأت بأي شيء مفيد عنه حتى لو كان ضئيلاً وهامشياً. وإن كنتم لاحظتم هذا الأمر، فيجب عليكم ألا تلوموه، فإن له بحسب ما استبطن عذراً وجيهاً، لأن الاتجاه أو النزعة الثأرية في كتابات الإخوان المسلمين عن جمال عبد الناصر وعن التجربة الناصرية لم تفرد بكتاب أو تخصص ببحث أو مقال موسع يتضمن معلومات ورؤى وتحليلات لأبعاده وآثاره، لكي يأتي هو بما هو مفيد عنه، فالرجل مجرد ناقل متعالم يستظهر محفوظاته أمام الجمهور العام ويسمعهم ما قرأه، لا أقل ولا أكثر.

* باحث وكاتب سعودي

ما المغزى من "المنطق الثأري" الذي اعتبره عدنان إبراهيم أحد عيوب الصحوة الإسلامية، والذي زعم أن أبا الحسن الندوي كان الرائد في إدراكه لدى الإسلاميين، كما أشار في مؤلفه "التفسير السياسي للإسلام"؟ لنستكمل استعراض تحليلاته التي فصلناها في مقالنا السابق، بغية استجلاء مقصده الدقيق من "المنطق الثأري" الذي انتقد به الإسلاميين. يقول إبراهيم: "لقد تنبه الندوي إلى هذه الفكرة، والتي أطلق عليها "النزعة الثأرية" في تفكير الصحويين. إنهم، دون شعور وبنية حسنة لا شك فيها، يرون أن صميم علاقتهم بالسلطات القائمة هو التصادم. وعندما تنتهي حقبة وتحل أخرى، تتحول هذه العلاقات إلى ثأرية، كالحقبة الناصرية على سبيل المثال. ثمة كم هائل من الأدبيات الثأرية التي تتناول تلك الحقبة. لكنهم اليوم بدأوا يتراجعون عن ذلك، وهو أمر محمود. الثأر كذلك من الغرب، الغرب الصليبي الذي يستحضر طابعه الصليبي، وتكتب المؤلفات تحت مسمى "الحرب الصليبية الجديدة". وقبل التعمق في مراد إبراهيم من هذا المصطلح، أود الإشارة إلى ادعاءين متلاحقين ظهرا في كلامه. أولهما: ادعاؤه في بداية الحديث أن أبا الحسن الندوي هو أول من اكتشف "المنطق الثأري" في الكتابات الإسلامية. وثانيهما: قوله في سياق الحديث: "أنا أسميها النزعة الثأرية في تفكير الصحويين". أود التشديد مرة أخرى، فيما يتعلق بالادعاء الأول، على أن صلب موضوع كتاب الندوي يختلف تمامًا عما ادعاه إبراهيم. فالندوي، شأنه شأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر وخارجها من الدول العربية، تخضع نظرته إلى جمال عبد الناصر وحقبة حكمه لمنطق الثأر. أما فيما يخص الادعاء الثاني، فسأتوجه إليه بالسؤال مستخدمًا الأوصاف التي يرى أنه استحقها، والمكانة التي يعتقد أتباعه أنه يتبوأها: يا أيها المفكر العميق، والفيلسوف الجليل، والعالم الموسوعي الكبير، متى تجلى لك هذا المصطلح "النزعة الثأرية" في تفكير الصحويين، الذي وجدت نواته الأولى عند الندوي، والذي استنتجت من خلال حديثك - وإن لم تفصح عنه جهارًا - أنه نشأ بشكل تراكمي وكان مصدره الأساسي هو الندوي، وأنه أكثر شمولية من مصطلح "المنطق الثأري" كما يراه الندوي ذاته؟ وأين أطلقت هذا المصطلح؟ أفي كتاب ألفته، أم في بحث علمي قدمته، أم في مقال صحفي نشرته، أم في محاضرة عامة ألقيتها، أم في مداخلة ضمن ندوة فكرية، أم في حوار تلفزيوني أو إذاعي أو صحفي، أم في خطبة جمعة ألقيتها؟ أسألك عن الزمان والمكان، لأن المسألة القائلة بأن كتابات وأقوال جماعة الإخوان المسلمين (كتب، مقالات، محاضرات، ندوات، خطب، مجلات) عن جمال عبد الناصر والفكر الناصري، تخضع لمنطق الثأر، هي فرضية شائعة بين المثقفين منذ سبعينيات القرن المنصرم. وآنذاك، كنت لا تزال في ريعان الشباب، وفي آخر تلك الحقبة كنت في بداية فترة المراهقة تتجول في أوساط الحركة الإسلامية ودورها وأحيائها. ناهيك عن ذلك، فإن انغماس الإسلاميين في نزعة ثأرية وانتقامية من عبد الناصر وزمنه، عقب وفاة الزعيم والتحول عنه، كان أمرًا بائنًا وضوح الشمس، ولا يتطلب "تنبيهًا" أو استكشافًا، ولا يستحق ادعاء شخصيًا بابتكار مسمى آخر له من طرفك. وأسألك كذلك: ما هو الفرق الجوهري، في سياق الموضوع قيد النقاش، بين كلمة "منطق" وكلمة "نزعة" وكلمة "اتجاه"؟! لنتدبر الآن في مغزى "النزعة الثأرية" كما يراها عدنان إبراهيم، الذي يعتقد أن تسميته هذه تتسع وتتفوق على معنى "المنطق الثأري" الذي نسبه كذبًا إلى كتاب الندوي! المغزى عنده - بعد إعادة تركيب الشرح - هو أن الإسلاميين وجهوا دفة تفكيرهم نحو ضرورة أن تكون علاقتهم بالسلطات القائمة علاقة تصادمية في جوهرها. ونتيجة لذلك، نشأ الخلاف بين الطرفين، وكان صراعهم مع السلطات القائمة مدفوعًا بحسن النية! هذا في المرحلة الأولى. أما في المرحلة اللاحقة، فقد تحولت العلاقة من مجرد خلاف إلى علاقة ثأر، ويستشهد هنا بالكتابات التي أنتجها الإخوان المسلمون عن عبد الناصر وحقبة حكمه. ورغم إيضاحه لشرحه وتقديمه بصياغة أخرى، إلا أنه لا يزال شرحًا مرتبكًا ومائعًا، كما كان في صورته الأصلية. والعلة ليست في ضعف البيان، بل في تبنيه للرواية الأخرى المخالفة لرواية الإخوان المسلمين، التي تزعم أن الإخوان المسلمين هم من بادروا بالصدام وليس ضباط الثورة. فتحكمت عاطفته الحزبية، وشعوره بالأخوة والصداقة، ورغبته الجامحة في تخفيف وطأة ذنبه في التخلي عن رواية الإخوان المسلمين والتهوين من خطيئة تبني الرواية الأخرى، مما دفعه إلى تعميم ما هو خاص. فوصفه المذكور - بكل ما فيه من شوائب - لا يصدق إلا على جماعة الإخوان المسلمين في مصر وقصتهم المعروفة مع ضباط ثورة يوليو، ولا يمكن تعميمه على الإسلاميين في سائر الدول العربية. فعلاقات الإسلاميين بالسلطة السياسية اختلفت، وطرق تعاملهم ومواقفهم منها تنوعت من بلد عربي إلى آخر، ولكل منهم حكاية مختلفة. والقاسم المشترك بينهم وبين الإخوان المسلمين المصريين في سياق حديثه، هو هيمنة عقيدة ثأرية استولت على عقولهم وقلوبهم، وتولت قيادة نظرتهم وموقفهم من جمال عبد الناصر وحقبة حكمه، وتلك العقيدة الثأرية تكاد تكون - في رسوخها وثباتها - عقيدة دينية. وقد ساقته عاطفته هذه، ورغبته في تخفيف وطأة ذنبه وتقليل شأن خطيئته حين اختار الرواية الأخرى، إلى تبني تفسير ساذج وجازم من أجل تحقيق نوع من التوازن، وهو الزعم بأن دافعهم للصدام مع السلطة كان بريئًا! وقد سلك المسلك نفسه في بداية الحلقة عندما فسر سماح أنور السادات لجماعة الإخوان المسلمين بمزاولة نشاطهم، إذ قال: "ثمة أسباب وراء ذلك معروفة ومحددة. السادات أراد إضعاف التيار القومي الناصري، وكان يصبو إلى بناء صورة لنفسه كزعيم جديد لا يقل شأنًا عن عبد الناصر، هكذا كان طموحه رحمه الله. وفي الوقت ذاته، كان يسعى لمحاربة اليساريين والشيوعيين، فاستخدم الإسلاميين كأداة لضربهم". وهو هنا يتبنى التفسير الرائج للسبب المحلي الذي حدا بالسادات إلى التحالف مع الإخوان المسلمين ودعمهم، وكذلك دعم التيار الديني الجهادي التكفيري، ومنحهم الحماية الأمنية، واستخدامهم في القضاء على التيار الناصري والتيار اليساري والشيوعي. والمعلوم بالضرورة أن الإخوان المسلمين والإسلاميين عمومًا ينكرون هذا التفسير الذي تبناه عدنان إبراهيم. ولعلمه بموقفهم من هذا التفسير، كونه من أبناء الحركة الإسلامية وكان سابقًا ينكره مثلهم، فقد أضاف سببًا ثالثًا (ما ذكره يشكل سببين، إنما قام بالفصل بين إضعاف الناصريين وبين محاربة اليساريين والشيوعيين، مع أن الفصل بينهما غير ممكن، فهما هدف واحد) يتبناه الإخوان المسلمون فقط، وهو قوله: "ناهيك عن أن جماعة من الإخوان المسلمين وقفت معه في البداية موقفًا قويًا وشهمًا، فلم ينس لهم ذلك رحمه الله. وهذا أمر معروف". وهذا ليس سببًا، بل نتيجة لتحالفه معهم ودعمه السياسي والأمني لهم. إذًا، فهو من خلال كلامه، رام وضعه والسادات في خانة قوة سياسية متكافئة، ويتضمن هذا الإطار تفسيرًا أخلاقيًا. وتفاصيل الحكاية هي: في البداية وقفت مجموعة منهم في مجلس الشعب مع السادات موقفًا قويًا وشهمًا، والسادات، لأنه لم ينس لهم هذا الموقف النبيل، فتح لهم المجال واسعًا. فكما أنهم مدينون له، فهو أيضًا مدين لهم. خلاصة القول، إن التحالف بين السادات والإخوان المسلمين نشأ لسبب سياسي وأيديولوجي، وأتى كذلك لسبب أخلاقي، وكان الإخوان المسلمون هم المبادرون إليه. يذهب عدنان إبراهيم إلى أن التسمية التي اختارها أوسع نطاقًا من التسمية التي زعم أن الندوي قد أطلقها في كتابه المذكور، وذلك لكونه اعتبر كتابات الإسلاميين عن الحقبة الناصرية مجرد مثال من بين أمثلة عديدة للمنطق الثأري في تفكير الصحوة، ولكونه أدرج كتابات الإسلاميين المشحونة بالتعصب الديني ضمن المنطق أو النزعة أو الاتجاه الثأري لديهم. وفيما يتعلق بالشق الأول، لا نعرف سوى المثال الذي ذكره، فهو المثال الأبرز والوحيد. فالكتابات المشوبة بالمنطق والعقلية الثأرية لا تنطبق إلا على كتاباتهم عن عبد الناصر وعن الحقبة الناصرية. فمثلًا، كتابات الإسلاميين السوريين عن نظام البعث وعن حافظ الأسد وأركان حكمه لا تصنف ضمن هذا الإطار، على الرغم من أن مؤلفيها هم من الإخوان المسلمين، وأن كتاباتهم مشوبة بالمنطق والعقلية ذاتها. إن حصر هذه التسمية على كتابات الإخوان المسلمين المصريين والإسلاميين عمومًا عن جمال عبد الناصر وعن الحقبة الناصرية له أسباب ليس هنا مقام تفصيلها. وفيما يخص الشق الثاني، فإن المثال الذي ذكره يمثل سياقًا وموضوعًا وقضية مختلفة تمامًا عما يتحدث عنه. وفي ختام حديثه المختلق عن تنبه أبي الحسن الندوي للمنطق الثأري لدى الإسلاميين، قال للزميل أحمد العرفج: "نحن في نهاية المطاف - انتبه هنا مسألة عميقة جدًا - أبناء دين. وهذا الدين ليس حكرًا علينا كمصريين، ولا علينا كسعوديين، بل هو للناس أجمعين. لا يجوز أن نتناول الدين - وهو نعمة يفترض أن نتنعم بها ونحظى ببركاتها - ثم نحوله إلى منطق صدامي وثأري وتصفية حسابات، بشكل من الأشكال - تخيل - في أوضاع ضيقة ونطاق محدود. لقد تنبه الندوي لهذا الأمر وشعر بخطورته البالغة، ورأى أنه يؤثر - هكذا قال - ويجعل المشروع الإسلامي فاشلًا وغير مقبول لدى أبناء الأمة الإسلامية تخيل لاحظ هذه الملاحظة من قديم". هنا يكذب مرة أخرى على الندوي. فكل ما ألزمه به في الكلام أعلاه لم يقله الندوي، ولم يقارب قوله ولو من بعيد في كتابه المذكور. وكذبته هذه المرة كذبة فجة وبلا حياء، إذ زعم في ختام الكلام أنه ينقل عنه بالحرف الواحد!!! إننا إزاء فضيحة ارتكبها هذا المتعالم المتغطرس، يستحيل عليه وعلى محبيه التستر عليها أو تبريرها أو إيجاد مسوغ لها. فهو ينسب إلى كتاب موضوعًا لا يوجد فيه ذرة منه. وهذا الكتاب الذي يمجد به موضوعه هو نقد صريح وتخطئة واضحة للمسار الذي سلكه في تناول التاريخ الإسلامي. وكان هذا الحديث سببًا رئيسًا في شهرته، ومصدرًا لجمهور واسع متفاوت في تحصيله الديني وثقافته العامة وأعماره واتجاهاته وميوله ومشاربه. الحق يقال، إننا أمام فضيحة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. قد تلاحظون من خلال سعينا لاستجلاء معنى المنطق الثأري الذي تحدث عنه واعتبره من سلبيات فكر الصحوة أنه لم يقدم أي إضافة مفيدة بشأنه، حتى وإن كانت ضئيلة أو هامشية. وإذا ما لاحظتم هذا الأمر، فلا تلوموه، فلديه - فيما يبدو - عذر وجيه؛ لأن الاتجاه أو النزعة الثأرية في كتابات الإخوان المسلمين عن جمال عبد الناصر وحقبة حكمه لم تفرد بكتاب مستقل أو تخصص ببحث أو مقال مطول يتضمن معلومات ورؤى وتحليلات لأبعاده وآثاره، كي يقدم هو شيئًا ذا فائدة حيالها. فالرجل مجرد ناقل متعالم يستعرض محفوظاته أمام الجمهور العريض ويسمعهم ما قرأه، لا أقل ولا أكثر. * باحث وكاتب سعودي

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة